علّقتُ حقيبة يدي بإحكام على كتفي كعادةِ النساء، ووقفتُ مع ثلّةٍ من المعلمين، لكي ننظم صفوف الطلاب المغادرين على الطائرة للمشاركة في مسابقة تنظمها المدرسة كلّ عام.
عبر مُكبّرات الصوت، أعلنَ قائدُ الطائرةِ بضرورةِ عدم التحركِ من أرضِ المطار، والبقاء في صفوفٍ طويلةٍ منتظمةٍ على المدرجِ، ريثما يُفتح باب الطائرة.
فجأة، صرخت معلمة تقف في الطابق التاسع من المبنى المجاور للمطار، ثم نادت على أحد الأساتذة المساعدين لي، بأن يرمي لها إلى الأعلى ملّف أسماء التلاميذ المسافرين.
هل جنّتْ هذه المعلمة؟
هكذا حدّثت نفسي وأنا أراقبُ المشهد والدهشة تغمرني.
هل يُعقل هذا؟
كيف سيطير ملّف ثقيل من الأسفل للأعلى متحدياً قانون نيوتن؟
ثم حدث ما لم أكن أتوقعه مطلقاً !
المعلم يرمي الملف، والملف يطيرُ في الهواء ويستقر بين يديها وهي تقف في نافذة الطابق التاسع.
التفتُّ حولي، لأرى وقعَ ما حدث على التلاميذ الذين كنتُ أنظم صفوفهم، لكنني لم أرَ واحداً منهم.
لقد اختفوا..
أسرعتُ بدخول القاعة الرئيسة، لأنادي على التلاميذ لكي يعودوا إلى صفوفهم، وإذا بامرأة يبدو على مظهرها ملامح الثراء الفاحش، ومعها ثماني حقائب، كل حقيبة تُشبه خزانة الملابس.
فتحتْ السيدة أحد أبواب هذه الحقائب فإذا بها مليئة بالجواهر المعلّقة بطريقة مرتبة، لتأخذَ أقراطاً تتزين بها.
وقفتُ لفرط الدهشة أتأمل هذه السيدة وحقائبها العجيبة !
فجأة، التفتتْ السيدةُ نحوي، وطلبتْ مني أنْ أحرسَ حقائبها الثمانيّة ريثما تدخلُ هي صالون الشرف لترتاح قليلا.
وافقتُ على مضض، ووقفتُ أراقب الحقائب بينما ظلّت السيدة التي كانت تلبسُ ملابس جميلة مزركشة تمشي إلى أن اختفت داخل الصالة.
ولفضولي الشديد مِلتُ برأسي داخل الصالة، فرأيتُها تجلس على كنبة فخمة كملكة متوّجةٍ على عرشها وتنظرُ بابتسامةٍ بلهاء نحو حذائها الذهبي.
أسرعتُ بالنظر إلى الحقائب فرأيتُها قد ازدادتْ عدداً، وصارتْ ضعفين.
- يا الله!
سيدة أخرى تشبه السيدة الأولى قامتْ بوضعِ حقائبها بجانب الحقائب الأولى!
- ما هذا البلاء يا ربي، أنا مشغولة حقاً، ولا وقت لديّ الآن لكل هذه الحقائب!
هكذا كنتُ أحدّثُ نفسي، وكأنّ السيدة الثانية سمعتْ
ما أفكر به، فقالتْ لي:
- لا تحملي همّاً، أنا سأبقى أمام حقائبي وأنتِ ..
ولم تكملْ جُملتها إلّا وصوتُ المدّرسِ الذي كان سيذهبُ معي في الرحلةِ يهتف بي:
- أستاذة سوزان أين أنتِ؟
عودي سريعاً، الطائرة ستقلعُ الآن..
أشرتُ لهُ بيدي إلى الحقائب، وبصوتٍ متقطّع قلتُ له: إنها أمانة وعليّ أن أحفظها، كيف سأتركها و...؟
قاطعني بصوتٍ عالٍ مرّة أخرى: اتركيها الآن لو سمحتِ، وإلّا ستبقين هنا في المطار لوحدكِ.
تركتُ الحقائب مسرعةً، وجريتُ خلفه لأنني واثقةً منه مع أنني لا أعرف اسمه، ولكني متأكدة من شيء واحد، أنه معي في الرحلة.
لا أعرف كيف وجدتُ نفسي في الطابق التاسع من المبنى الذي كان يضمُ قاعة فسيحة وأساتذة يبدو أنهم مشغولون بالتحضير لمسابقة كبيرة، وآخرين منهمكين في كتابة تقارير، ومجموعة أخرى مشغولة بِطيّ مناشف بيضاء لا زالت مبلولة بعض الشيء، لم تجفّ تماما.
عرضتُ عليهم المساعدة في طيّ المناشف والدهشة تكاد تقتلني، وأسأل نفسي مرّة أخرى، لماذا يفعلون ذلك؟
لم يلتفتوا إليّ ، ولم ينتبهوا لحيرتي، حاولتُ أن أسلّم عليهم مجدداً، ولكن محاولاتي باءت بالفشل وذهب صدى صوتي أدراج الرياح.
ارتفع صوتُ عراك على الشرفة بين شابين بعضلاتٍ بارزة، وقد احتشد الحضور لرؤية ما يحدث.
أنا أخشى الأماكن المرتفعة كثيراً، ومن خِشيتي تِلك، خِفتُ أن يقعَ أحدُ المحتشدين حول الشابين إلى الأسفل.
فأسرعتُ باتجاههما، فعرفتُ واحداً من المتعاركين، وهو من وجهتُ له النداء ليكفّ عن العراكِ حالا.
سألتُ الحاضرين عن سبب الخلاف بينهما الذي أدّى للعراك، فقالوا لي: إنّها المناشف المبلولة.
رجوتُ الشابين أن يَكفّا عن العراكِ لأجلي، لأن ذلك يؤلمني ويبكيني، وإذا لم يتوقفا أنا أيضاً لن أتوقف عن البكاء الذي بدأتُ به، وربما أموت.
توقفا ونظرا إليّ باستغراب، يراقبان بأسفٍ دموعي التي كانت تملأ وجهي.
وهنا ....
صحوتُ من نومي وما زالتْ الدموع تملأ عينيّ.
أيقنتُ بعدها، بأنّه كان حلماً..
من سلسلتي القصصية كان حلماً
سوزان عون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق