قراءات نقدية،
إطلالة على مجموعة " ليلى حتى الرمق الأخير " سوزان عون
كتبها: الأستاذ الشاعر يحيى السماوي..
في مجموعتها الشعرية الجديدة "ليلى حتى
الرمق الأخير" الصادرة عن مؤسسة المثقف العربي في سيدني.
تُزيح الشاعرة سوزان
عون غبار الشرق الذكوري عن مرايا الأنوثة، متحصّنة بالإرادة قبل خطوتها الأولى
لقطع مسافة الألف سنة من تابوهات العرف القبليّ الذي نظر إلى المرأة على أنها
جُرمٌ صغير ليس له إلا أن يدور حول شمس الرجل.
هذه
الإرادة تطالعنا في مُفتتح أولى قصائد المجموعة "قرابين العشق":
(أدنو من أزاهير الحضارات
كطير نبَتَ له ألفُ جناح
يرتوي من غدران باردة
لن تهزمه طلقة عمياء)
راضية لنفسها أن تكون قربانَ الفداء كما لو أنها " كبش إسماعيل، غير
آبهةٍ بسيّاف القبيلة أو سوط العرف الجاهلي، انتصاراً للكرامة المتأصّلة في جنس
" ليلى " ...
فـ " ليلى " التي يحمل عنوان المجموعة اسمها،
ليست امرأة بعينها، إنما هي جنس المرأة (" هند " و" ليلى "
اسما جنس، يُطلقان على المرأة بعامة، شأنهما شأن " زيد " و " عمرو
" بالنسبة لجنس المذكر).
رافضة التدجين ومصادرة حقها المشروع في الخروج من
الدهليز المظلم:
(قلبي لا يرتاد دهاليز مظلمة
ولا يرتوي من بحار مالحة
فأنا من تربةٍ سقاها حلم الصبا).
ولأنها منحازة للنور، فقد أبتِ الإقامة في
الكهف تلبّي إملاءات الذكر الفحل:
(أظافر الليل الأسود إنْ أمسكني
أهرب منه كزئبق
أصنع من نجماته دربا الى السماء
وأحلّق
وأرتفع مع كل استدارة قمر).
رفضها لتأدية دور الجارية ليس وليد الحاضر الراهن،
بل وليد تاريخ ضاربٍ في القدم منذ عصر " وأد البنات " مروراً بعصر "حريم السلطان " وصولاً إلى عصر " كلنا في الهمّ شرقُ " على حد تعبير
أحمد شوقي.
والتعبير الأكثر إفصاحا في قول نزار قباني:
وسـريـرٌ واحد ضـمّـهـما
تسقط البنتُ ويحمى الرجلُ.
تقول سوزان في قصيدتها " المسرح باهت":
(خلسةً رفعتُ طرفي
أتلمّس خشبة الصمود، واللاعبُ ما زال يؤدي
دوره.
المسرحُ باهتٌ، كأنه يتلو بياناً حربيا، ويأبى
إلا انهمار الشموع.
غريبٌ كيف يحفظ دوري؟
أجتمع معه في غرفة الكواليس
لأشربَ من وجعي ألف كأس وصرخة).
هي إذن لا تريد للحب أن يكون مسرحية يؤدي
فيها الطرفان دوراً مرسوماً مسبقا، فالذي تريده، أن يكون الحب مبرراً للوجود وباعثاً للتشبث بالحياة ... وتريد من العاشق أن يتماهى بالمعشوق، لذا تطلب من الذكر أن
يكون رجلاً وليس فحلا، وعند ذلك سيكون استسلامها له انتصاراً عليه، مادام أن
استسلامه لها انتصارٌ له:
(اهزمني
فالهزيمة بين يديك علوٌ وانتصار).
لكن استسلامها له مشروطٌ بأن تملأ عينيه
ويتخذ منها نبضاً للقلب وليس مجرّد محظيّة تذيب بدفء أنوثتها جليد فحولته، فتقول:
(اجمعني برمشيك واجعلني نبضة خفاقة
تثير جدلاً كلما ابتعدت).
ومع أن قصائد المجموعة تتناول القلق الوجودي
للمرأة الشرقية بوجه عام، والعربية بوجه خاص، إلا أنّ حضور الرجل هو الطاغي، إذ
يتكرر ضمير المخاطب في كل قصيدة وتتكرر معه أفعال المضارعة على نحو لافت.
لدرجة
أنّ الأفعال الماضية تأتي دالة على المستقبل كما في سؤالها الاستنكاري هذا:
(انسكبت من تعجّبٍ دواتي
تؤرّخني امرأة لكل الفصول)
أو قولها:
(الحلم هزمَ يباس السنين
اليتيمة بعناقٍ أحمرَ
وتفوح الذكرى، وتعود بنا
إلى موطن ضحكاتنا لنبدأ من جديد).
قلة أفعال الماضي قياساً إلى كثرة أفعال
المضارع والأمر تفضي إلى نتيجة مفادها أن الشاعرة تعرف ما تريد وتمتلك البوصلة.
فهي
ليست ضائعة تبحث عن منقذ، ولا بالمتشائمة:
(لستُ ضائعة
أنا اليوم في سـنِّ الطفولة الأبدية
وأرفض أن أموت، وكفّي يعصر شرابا للقمر).
تكتب تاريخها بنفسها ـ الأحرى: ترسم غدها
بنفسها، مولّيةً ظهرها للماضي، محدّقة بالغد على رغم فجائع الحاضر، وحين يكون
الكأس فارغا أو نصف ممتلئ، فإنها تملؤه بما تريد:
(أنا تأريخ أكتبه بصدق
وبدون كتبةٍ يكذبون
وبدون أصباغ زائفة لوجهي اليتيم
لا يقلقني الغد
ولا تلك المسافات الفارهة
التي بيني وبين المستقر
لا أضجر ولا أيأس
ففانوس الحلم في يدي
وسندباد رحلتي لم يقلع بقاربي بعد).
تُسقِط من شجرة الماضي الأوراقَ الذابلة
إفساحاً في المجال للأوراق الخضراء والبراعم الجديدة.
تنظر
للحياة بقلب أمٍّ وَلُود حتى لو كان الحاضر عقيما:
(أقضم القصص كقطعة قهر ولكنْ
لن أواري أصابعي في كهوف الصمت لتنتشي
فأنا مَنْ ألبستْ رحِمَ الأرض أحداقا.
أصلبُ التاريخ المشوّه ساعة اشتهاء لمزماري
وكقلبٍ يمسك ذراع الأمنيات
فأنا ليلى حتى الرمق الأخير)
هذا الإصرار على إعادة الاعتبار لأنوثتها
المُستباة، مبعثه الثقة بحتمية إقامة حضارة الحب حين تخرج ليلى من كهف العصر
الحجري والحضارات المشيّدة بالسيوف والرماح والديناميت، معلنة العصيان على العرف
القبليّ الذي يريد تدجين أنوثتها ومصادرة حقّها المشروع في ترسيخ وجودها ضفةً
أخرى، تقابل بالتساوي تماما ضفة الرجل في النهر الإنساني:
(مغامرة هكذا ولدتني أمي
ومسالمة بعض الشيء
أصفّق لك بكلتا مشاعري، ولكنّ أنظاري هناك،
في البعيد، أحمل كلّ ألواني على ظهري كسفينة شاختْ،
سأهدم كلّ الجدران التي هزمتْ هجمات ليلي
الأسود،
فأنا والنجومُ أحبّةٌ ومَن أعلنت الحربَ عليك
في البداية)
ليلى تعي حقيقة أنها نصف المجتمع، وهي التي
أنجبت النصف الثاني، فهي المجتمع كله طالما أنّ الرجل وليدُ رحمِها، وليس كما يقول
السلف ـ غير الصالح ـ إنها خرجت من الضلع الأعوج للرجل!
وهذا لا يعني أن ليلى تريد من الرجل أن يكون
تابعاً لها، فالذي تريده، أن يتخلى عن نرجسيته وألا ينظر إليها كـ " حُرمةْ
" وظيفتها رتق جواربه وغسل عباءته وطبخ طعامه اليومي، أو ماكينة إنجاب
و" إسفنجة " تمتصّ ماء فحولته ..
ليلى أنثى حتى الرمق الأخير، وبالقدر
نفسه، هي عاشقة حتى الرمق الأخير:
(يا أيها الوحي
من وادي العشق الأبديّ
نسّمْ على نوافذ القلب)
ولأن ليلى تعرف أنها الربيع الأبدي، فقد آلت
على نفسها أن تمنح الرجل بيادرها وخضرتها، وتقرأ عليه تعاويذ قلبها كي لا يجنح عن
صراط الوادي المقدس:
(أنا ربيعك الوحيد، وأزهاري أجففها
لأتبخّر بها كل ليلة وضحاها، في مواقد البرد
القادمة
وأستمر رغم سياط التحدي أمنحك بكرم الأنثى قطبَ
الأرض
المساوي لحياة محصّنة
أقرأ عليها المعوذات لئلا تتوه).
قصائدها وإنْ كانت تذود عن ظبي الأنثى من ذئب
الفحل / الذكر، إلا أنها تخاطب الرجل الفارس وليس المفترس، وتنذر له شِـعرها
ومشاعرها:
(أشحذ قصائدي لأسلطها عليك
فتنقر جدرانها وتفرّ.
ترتدي الليل ألغازا فتحار بك النجمات
للحكايات صولاتٌ، صولة فارس
وهديرٌ سماويٌّ لقداسٍ في معبد
ابتعد قليلاً لأكمل، فاللوحةُ تحتاجكَ ليرتفع
الستار
أعِرني قليلاً من ألوانكَ، والكثير من حضورك).
وحين يغيب الرجل الفارس، تفترش شرفة الليل
مترقبة فجر شراع سندبادها ليأتيها بالعيد المأمول:
(اجتمعتْ عقارب الساعة بالأمس
وقرعتْ جدران الليل طويلا
قيل لي بأنه العيد
فانتظرتك ولم تأتِ
أسدلتُ أستار الغياب
أحتسي مع كل دقيقة رشفةً من كوب القهوة
البارد
أراقب انهمار الدموع من شمعة وحيدة
وانتظرتكَ ولم تأتِ
خمدتْ نار مدفأتي كحقيبة
لمسافر أضاع المحطة
ونفد ما معه من نقود
جفناي مطبقان على سِرٍّ ودمع
وذكريات وليل وجد).
في قصائد سوزان عون، حضور واضح للريف، لعلها
نشأتْ ونَمَتْ وترعرعت في حقل أو على مقربة من بستان في فضاء مفتوح.
فهي تتعامل مع
القصيدة تعامل فلاحة مع أرضها، وهذا ما يتضح جلياً من خلال انتقائها ـ بقصد أو دون
قصد ـ مفردات قروية أكثر من كونها مدينية كالتي سأحصرها بين مزدوجات من قصيدتها
" جذور صوتي ":
(هذه " الغيمة " حلّقتْ بعيدا
فيها كأس من دمعي
عودي وردّي إليّ جنوني
لئن " أمطرتِ " ستفيض "
بيادرك " تأسفا
هل تذكر كم وكم " أبرقتْ " يدي
وهي " تمسح التعب " عن جبين القصيدة؟
ستذكر نياشيني
التي علّقتها على جدران الوحي
وراحة يدي آلمها " الدوران "
مع رحى " البيادر والغلال "
تتساقط حولي كشهب رمادية
لفظها " بركان " متورّم
يشتهي " حصادا " فائضا
" مواسم الأرض نمَتْ " من خطوط كفي
التي عجزتَ أن تقرأها
طالت " جذور " صوتي
سيصلك جرح أغانيه مع حلول الشتاء.
لا أزعم أن قراءتي هذه قد أضاءت تضاريس رحلة
الشاعرة سوزان عون في مجموعتها " ليلى حتى الرمق الأخير، فثمة مناطق
كثيرة تحتاج قراءات وإضاءات أخرى، كجليد الغربة، وجمر الحنين للوطن الأم، والبنية
الأسلوبية مثلا.
يحيى السماوي..
ليلى حتى الرمق الأخير، للشاعرة سوزان عون.