قالت نهال وهي تضحك وتشير بأصبعها نحو مكتبتي العامرة بالكتب: حان الوقت لأشتري كتبا جديدة، أخر كتاب اشتريته من شهرين تقريبا، حملته وتصورت معه صورة (سيلفي) وأنزلتها فورا على (الفيسبوك).
تزداد وتيرة ضحكها وتتأمل وجوهنا المسمّرة نحوها وعلى وجهها المصبوغ بكل ألوان الطبيعة كلوحة لرسام مبتدئ.
أجبتها: بل تقصدين حان الوقت لنقرأ كتابا يا نهال.
هنا طرحت نهال السؤال على الحاضرات، متى أخر مرة قرأتن كتابا سيداتي الجميلات؟
اشتبك الحوار كأنها فجرت قنبلة، وبدأت الصديقات يتذرّعن بالبيت، بالزوج والأولاد كالعادة وأنا معهن طبعا.
وأنتِ يا مريم، ماذا قرأتِ في الآونة الأخيرة، هيا أخبرينا..
طرحتْ السؤال عليّ، وفي عينيها نظرة ماكرة، كأنها تريد أن تسبب الإحراج لي.
نظرتُ نحو الجميع بمحبة وقلت، أخر ما قرأته هو عن سيرة وحياة الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران، بل شاهدت شريطا مسجلا عن حياته على اليوتيوب،
شعرت برهبة أمام ما أنجزه هذا اللبناني المغترب..
في كل الأحوال، تفضلوا الغداء جاهز.
نهض الجميع إلا هدى، اقتربتُ منها وأشرتُ بيدي نحو طاولة الطعام، أعدتُ جملتي، قلت لربما لم تسمعني، الغداء جاهز تفضلي هدى حبيبتي.
لفتَ نظري وأنا أكلمها مسحة من الحزن تعلو وجهها وفي نبرة صوتها، فقلت بصوت منخفض: خير هدى، ما بالكِ؟
ردّت بصوتها الراقي المثقف العذب وهي تجلس جلسة الواثق من نفسه، تلفّ ساقيها بإحكام وظهرها مستقيم: هذا الحال لم يعد يعجبني يا مريم، أشعر بنفسي غريبة بينكن.
لا أنكر بأنكن صديقاتي المفضلات، ولكن الجميع تغير، نعم أنتن تغيرتن.
تغيرنا، هل بدر منا أي تصرف سيء نحوكِ ولم ننتبه له؟ أجبتها بصوت متقطع.
جلستُ بقربها جلسة المنهزم، وطأطأت برأسي حتى غرق بين كتفي، حددي لي يا هدى بالظبط ماذا تردين قوله لو سمحتِ.
أجابتْ بصوت هامس أكاد أسمعه: حال الصديقات يزداد تغيرا نحو الأسوء، لم نعد كما نحن، وكما تعرفتُ عليكن على مقاعد الدراسة، الحياة ليست مأكل ومشرب فحسب، الحياة علم وثقافة ومعرفة.
بالتحديد، هناك تغير في سعة الإطلاع والثقافة والقراءة عند الصديقات.
أخبريهن بذلك، قلت لها.
لا يا مريم، من أنا لأحاكم الناس، عليّ لفت النظر لكِ فحسب كصديقة من سنين طويلة.
بارك الله فيكِ يا هدى، أرى وأشعر بما تفضلتِ به، ولكننا عموما نطرح هذه المشاكل في كل لقاء، وأعرف أن قيمة الإنسان تقاس بمدى إدراكه للأمور وسعة علمه وخبرته.
هنا قاطعت هدى حديثي، فرفعت يدي إشارة مني بأن لحديثي بقية.
نعم يا هدى، أرى ذلك، ما أشعر به يخنقني أكثر منكِ، ولكن ما باليد حيلة..
ما الحل، أرجوكِ قوليه، المفروض بأن يتم طرح هذه الهموم بشكل علني أمام الصديقات ونسمع أجوبتهن.
هنا قطعت سعاد الحوار، اقتربت مني وربتت على كتفي وقالت: خير يا مريم، لما هذا الحزن على وجهكِ، هل هناك أي أمر ما، أخبريني.
هدى هل حدث أي طارئ لمريم لا سمح الله؟
لا حبيبتي سعاد، مريم يؤلمها رأسها قليلا، هيا بنا إلى الطعام، هيا يا مريم قومي يا غالية، بعد الغداء ستتحسنين بإذن الله.
نهضتُ وأنا أشعر كأنني أحمل أثقالا إضافية على كتفيّ.
قلت في نفسي، سامحكِ الله يا هدى، لماذا لا تناقشين الحاضرات بما في رأسكِ، لماذا تختبئين دوما خلفي، كيف ستقدّرين وتعرفين بأننا نكبر ونتغير، والأيام لم تعد كما هي من ثلاثين سنة.
لقد تناقشنا بهذه الأمور مئات المرات، لم نعد تلك المجموعة من المراهقات الشابات، اللواتي يشدهن طموهن بخطوات سريعة مجنونة نحو الأمام..
نعم تغيرنا، وأصبح لكل منا ما يشغله عن الإهتمام بنفسه بالقدر الكافي.
إنه زمن أولادنا وأحفادنا، وهناك أيضا من يسرق الحلم من ناحية، ومن ناحية أخرى الكم الهائل من الأوجاع التي تأخذنا إلى أماكن لا نريدها.
من مع نهال أو مريم أو هدى؟
بقلم: سوزان عون